القاهرة ـ : بعينين زائغتين يملؤهما حزن وشرود لا يناسب سنه، قال أحمد:"لا أطيق عيشة البيت، أريد أن أطير في كل مكان كالحمام." حلم غريب وصورة حالمة لطفل رث الثياب أغبر الوجه كثيف الشعر.
ويعتز أحمد باسم "رينجو" الذي يطلقه عليه أقرانه من الذين يفضلون عيشة التجوال في الطرقات أو الذين وجدوا أنفسهم مجبرين على هذه الحياة التي تجعلهم عرضة لكل الموبقات ولهجمات الأمراض، كما تجعلهم لقمة سائغة في فم كل وحش بشري.
وبالرغم من جسد رينجو الضئيل الذي يشعرك بأنه لم يتجاوز عشرة أعوام، فإنه تجاوز الرابعة عشر من العمر. وهو ليس حالة فريدة في شوارع القاهرة. وأقرانه الذين يفترشون شوارع العاصمة المصرية يصل عددهم طبقا لتقديرات الأمم المتحدة إلى مئة وخمسين ألف طفل مشرد.
وتشير دراسة أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة إلى أن مدينة القاهرة هي أكثر المدن التي ينتشر بها المشردون، حيث تؤوي في شوارعها 31.6% من المشردين، تليها محافظة بورسعيد 16.8% إحدى مدن قناة السويس،، بينما تقل النسب في مدن ومحافظات الجنوب بصعيد مصر.
ويأتي معظم هؤلاء الأطفال من عائلات مفككة أو فقيرة. وهو ما يشير إليه الدكتور "أحمد المجدوب" أستاذ علم الاجتماع بجامعة الأزهر، عندما يعزو أسباب هذه الظاهرة إلى التفكك الأسري والفقر ونمو وانتشار التجمعات السكانية العشوائية التي يرى أنها البؤر الأولى والأساسية المفرزة والمستقبلة للأطفال المشردين.
ويعترض الدكتور المجدوب على تسمية "أطفال الشوارع" التي يرى أنها مستعارة من التسمية التي يطلقها علماء الاجتماع على اللقطاء في دول أمريكا اللاتينية، حيث إن الأطفال المتسكعين في شوارع مصر لهم عائلات يعرفونها وبعضهم يبيت في منزل أسرته، وإن كان يقضي نهاره وجزءا من ليله هائما على وجهه في الشارع، ولذلك يفضل أن يطلق عليهم اسم "المشردون".
وبالطبع يدخن رينجو السجائر مثل أغلب أطفال هذه الشريحة، وإذا ضاق به الحال ولم يجد ما يشتري به سيجارة أو كان أصدقاؤه مفلسين فإنهم يقومون بجمع أعقاب السجائر أو "السبارس"، بحسب التعبير الشعبي المصري.
الأسوأ من التدخين أن كثيرا من هؤلاء الأطفال يسقطون ضحايا لإدمان المخدرات، التي يلجؤون إليها للتغلب على الألم والجوع ومتاعب التجول بين الشوارع أو حتى بين مختلف المدن.
رينجو، على سبيل المثال، لا يستقر في مكان بعينه. وفي أحد المرات ذهب إلى الإسكندرية مع مجموعة من أقرانه للتصييف والبحث عن مصدر للرزق، أو كما يقول: "لتقليب العيش".
ويقول رينجو إن أهله يعيشون في حي شعبي مزدحم، وأن والده الذي يمتلك متجرا صغيرا لبيع الأدوات الكهربائية يحاول بكل ما أوتي من قوة وإمكانات توفير ضروريات الحياة لأسرته.
ويؤكد بنبرة غاضبة وثائرة أن أسرته حاولت أكثر من مرة إحضاره من الشارع للعيش وسط أفرادها، إلا أنه كان يرى من وجهة نظره أنهم لا يحبونه ويفضلون أخويه عليه.
كانت معارضة الأسرة للعب رينجو كثيرا وحبه لتربية الحمام على حساب الدراسة، كفيلة بأن تجعله ينأى عنهم ويختار الطرقات كمأوى له لعلها تحقق له أحلامه الصغيرة.
وقال أحمد وبسمة الاستنكار تعلو وجهه المتسخ: "عيشة الشوارع أرحم من أبويا"!
وعمل أحمد في عدة أماكن ومارس عديدا من الأعمال، لكنه تركها لأن أصحاب العمل والعاملين كانوا يعاملونه بقسوة بلغت حد التحرش الجنسي!
ويقول الدكتور المجدوب: "إن هؤلاء الأطفال يمثلون مشكلة شديدة التعقيد، ويتسببون في إصابة المجتمع المصري بكوارث صحية ونفسية واجتماعية، وهذه الظاهرة أخطر من ظاهرة عمالة الأطفال؛ لأن الأطفال العاملين يقومون بدور إيجابي ولو كان ضئيلا، أما الطفل المشرد بلا عمل، وبلا رقابة أسرية فليس إلا مشروع مجرم".
وتشير إحصاءات كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة القاهرة إلى أن هؤلاء الأطفال يشتركون في بعض السمات العامة سواء الجسمانية أو السلوكية، فـ98% من هؤلاء الأطفال يسيرون حفاة الأقدام، و96% منهم يتسمون بالتسكع والعنف واستخدام أسلوب معين في الحديث، و94% منهم ينامون ليلا في أماكن غير منازلهم، كأسفل الكباري والأماكن المهجورة.
أما دراسة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فقد كشفت أن الغالبية العظمى للأطفال المشردين هي من الذكور بنسبة 92%، بينما لم تتجاوز نسبة تشرد الأطفال من الإناث على 8% من إجمالي حالات التشرد في مصر، حيث تفرض أساليب التنشئة والتربية على الإناث أن يكن أكثر ارتباطا بالعائلة واعتمادا على الأسرة، وأكثر التزاما مقارنة بالذكور.
وإذا كانت الظروف التي يمر بها هؤلاء الأطفال تمنعهم من الحصول على حقهم في التعليم والعيش الآمن، إلا أنها لم تنجح في حرمانهم من الحق في أن يطرحوا أمنياتهم ويحلموا بالغد.
وكل أماني رينجو تدور حول العيش في بيت مستقل بعيدا عن القيود والأهل والتحرشات والمضايقات ورجال الشرطة. أما حلمه الكبير فهو اقتناء بيت حمام يطول السحاب، ويضم عشرات الأنواع من هذا الطائر. فكل حمامة تطير، يطير قلبه معها، ويحقق حلمه في التحليق والطيران.