قريبا من الوقت الذى شهدت فيه نجد مأساة قيس وليلى، وشهد الحجاز مأساة قيس ولبنى، شهدت أرض بنى عذرة مأساة أخرى من مآسى الحب العذرى، هى مأساة جميل وبثينة.
حدثت القصة في العصر الأموي وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان أو الخليفة الوليد بن عبد الملك.
كانت بثينة فتاة من بني الأحب، وهم من رهط بني عذرة، وكذلك جميل، كان من رهط آخر من بني عذرة هم رهط عامر، وبني عذرة كانت تنزل في البادية العربية شمال الحجاز، في وادي القرى الذي يقع على مقربة من الطريق التجاري بين مكة والشام ، وهو واد خصب، استقرت به تلك القبيلة، وكانت مشهورة منذ العصر الجاهلي بالقوة والمنعة والشرف.
وقد دخلت بنو عذرة الإسلام في السنة السابقة للهجرة، وشارك أبناؤها في غزوات الرسول وفي الفتوحات الإسلامية .
أحب جميل بن معمر العذري بثينة بنت الحباب وبدأت القصة كالتالي :
رأى بثينة وهو يرعى إبل أهله، وجاءت بثينة بإبل لها لترد بها الماء، فنفرت إبل جميل، فسبها، ولم تسكت بثينة وإنما ردت عليه، أي سبته هي أيضاً.. وبدلا من أن يغضب أعجب بها، واستملح سبابها فأحبها وأحبته، وبدأت السطور الأولى في قصة هذا الحب العذري الخالدة.
حيث تطور الإعجاب إلى حب، ووجد ذلك صدى لديها، فأحبته هي أيضاً، وراحا يتواعدان سرا.
يقول جميل :
وأول ما قاد المودة بيننا ** بوادي بغيض، يا بثين، سباب
فقلنا لها قولا فجاءت بمثله ** لكل كلام، يا بثين، جواب
وتمر الأيام، وسطور القصة تتوالى سطراً بعد سطر.
لقد اشتد هيام جميل ببثينة،واشتد هيامها به، وشهدت أرض عذرة العاشقين يلتقيان ولا يكاد أحدهما يصبر عن صاحبه.
وكلما التقيا زادت أشواقهما، فيكرران اللقاء حتى شاعت قصتهما، واشتهر أمرهما، ووصل الخبر إلى أهل بثينة ، فتوعده قومها، وبدلاً من أن يقبلوا يد جميل التي امتدت تطلب القرب منهم في ابنتهم رفضوها، وأبوا بثينة عليه وردوه دونها، وتوعدوه بالانتقام، ولكي يزيدوا النار اشتعالاً سارعوا بتزويج ابنتهم من فتى منهم، هو نبيه بن الأسود العذري.
وكان جميل من فتيان عذرة وفرسانها الأشداء، وكان قومه أعز من قوم بثينة، فوقف في وجههم فجميل لم يستسلم، بل راح يتحدى أهل بثينة، ويهزأ بهم، ويهددهم منشدا :
ولو أن ألفا دون بثينة كلهم ** غيارى، وكل حارب مزمع قتلي
لحاولتها إما نهارا مجاهرا ** وإما سرى ليل ولو قطعت رجلي
ويقول أخرى:
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ** وهموا بقتلي، يا بثين، لقوني
إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ** يقولون: من هذا ؟ وقد عرفوني
يقولون لي: أهلا وسهلا ومرحبا ** ولو ظفروا بي خاليا قتلوني
ولم يغير هذا الزواج من الحب الجارف الذي كان يملأ على العاشقين قلبيهما، فقد كان جميل فارسا شجاعا يعتز بسيفه وسهامه، فلم يتأثر حبه لبثينة بزواجها، ووجد السبل إلى لقائها سراً في غفلة من الزوج.
وظلت العلاقة بينهما كما كانت من قبل، يزورها سرا في غفلة من زوجها، أو يلتقيان خارج بيت الزوجية، وما بينهما سوى الطهر والعفاف.
وكان الزوج يعلم باستمرار علاقة بثينة بجميل ولقاءاتهما السرية، فيلجأ إلى أهلها ويشكوها لهم، ويشكو أهلها إلى أهل جميل.
لكي تتوقف اللقاءات فترة، ثم تعود أقوى وأشد مما كانت.
فبثينة لم تكن تعبأ بما قد يفعله زوجها أو أهلها لقد أرغموها على الزواج بمن لا ترغب، وكان من رأيها عليهم أن يتحملوا وزر فعلتهم.
وتحدث إليه أهله في أمر هذه العلاقة الغريبة التي لا أمل فيها، وهذا الإلحاح الذليل خلف امرأة متزوجة، وحذروه مغبة الاندفاع في هذا الطريق الشائك الوعر، وما ينطوي عليه من عواقب وخيمة، وهددوه بأن يتبرؤوا منه ويتخلوا عنه إذا استمر في ملاحقته لها ، ولكنه لم يستطع أن يبرأ من حبه لبثينة.
وهذا كله لم يغير من الأمر شيئا، ولم يفلح في إطفاء الجذوة المتقدة في قلبي العاشقين.
لقد امتنع جميل عن بثينة فترة من الزمن لم تطل، ثم عادت النار تتأجج في فؤاده، فعاود زيارتها، بل تمادى في علاقته بها، وفى تحديه لأهلها واستهانته بزوجها، فلم يجدوا أمامهم سوى السلطان يشكونه إليه، فشكوه إلى عامر بن ربعي وإلى بنى أمية على وادي القرى، فأنذره وأهدر لهم دمه إن رأوه بديارهم.
وامتنع جميل عن بثينة مرة أخرى، ومرة أخرى ألح عليه الشوق، ولم يطق عنها صبراً، فعاود زيارتها معرضا نفسه للهلاك.
وأعاد أهلها شكواهم إلى السلطان، فطلبه طلبا شديداً.
وقد حاول العذريون أن يحلوا مشكلة هذا الصراع بترويض نفوسهم على الرضا بالحرمان، وهو رضا أحال حياتهم وهما كاذبا، وسرابا خداعا، وأحلاما لا تقوم على أساس من الواقع العملي الذي تقوم عليه حياة غيرهم من الناس.
يقول جميل معبراً عن هذه الفكرة، فكرة الرضا بالحرمان، والقناعة بالوهم الكاذب الخداع:
وإني لأرضى من بثينة بالذي ** لو أبصره الواشي لقرت بلابلة
بلا، وبأني لا أستطيع، وبالمنى ** وبالأمل المرجو قد خاب أمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي ** أواخره لا تلتقي وأوائله
لقد تصور هؤلاء العذريون مشكلتهم على أنها قدر مقدور قضاه الله عليهم فلا يملكون معه إلا الصبر عليه والرضا به.
يقول جميل معبرآ عن هذه القدرية المحتومة:
لقد لامني فيها أخ ذو قرابة ** حبيب إليه في ملامته رشدي
فقال: أفق، حتى متى أنت هائم ** ببثينة فيها لا تعيد ولا تبدي؟
فقلت له: فيها قضى الله ما ترى ** علي، وهل فيما قضى الله من رد؟
فإن يك رشدا حبها أو غواية ** فقد جئته، ما كان مني على عمد
لقد لج ميثاق من الله بيننا ** وليس لمن لم يوف لله من عهد
إنه لم يعد يملك من أمر نفسه شيئا، لقد قضى الله عليه هذا الحب، ولا راد لقضائه، إنه قدر مقدور لا يملك له دفعا ولا ردا.
ومع ذلك لم يفلح العذريون في حل مشكلة هذا الصراع فى نفوسهم، أو إقناع أنفسهم بأن المسألة قدر مقدور لا يملكون معه شيئا، أو ترويضها على الرضا بالحرمان الذي فرض عليهم، وإنما كانت كلها محاولات يحاولونها، قد ينجحون فيها في بعض الأحيان، ولكنهم في أكثر الأحيان كانوا يخفقون.
فنرى في شعرهم الشكوى الصارخة، والأحزان التي يعجزون عن إخفائها، والدموع التي لا يملكون لها كتمانًا، والسخط الذي لا يقدرون على التخلص منه.
وشعر العذريين جميعا مطبوع كله بهذا الطابع الحزين الباكي، حتى ليعد هذا الطابع من أقوى طوابعه المميزة وأعمقها.
ونعود لبطل قصتنا مرة أخرى.
بعد كل الأحداث التي تناولته فر جميل إلى اليمن حيث أخواله من جذام، وظل مقيما بها حتى عزل ابن ربعي، فعاد إلى وطنه ليجد قوم بثينة قد رحلوا إلى الشام، فرحل وراءهم.
وكأنما يئس جميل من هذه المطاردة التي لا تنتهي، والتي أصبح الأمل فيها ضعيفا، والفرصة ضيقة.
لقد فرقت البلاد بينه وبين صاحبته، ولم يعد لقاؤهما ميسراً كما كان عندما كانت تضمهما جميعاً أرض عذرة، فقرر أن يرحل إلى مصر، ليلحق ببعض قومه الذين سبقوه إليها، واستقروا بها، كما فعلت كثير من القبائل العربية التي هاجرت إليها بعد الفتح.
وانتهز جميل فرصة أتيحت له في غفلة من أهل بثينة، فزارها مودعا الوداع الأخير، ثم شد رحاله إلى مصر حيث قضى فترة من الزمن لم تطل، يتشوق إليها، ويحن لها، ويتذكر أيامه معها، ويبكي حبه القديم.
يقول جميل :
ألا ليت أيام الصفاء جديد ** ودهرا تولى يا بثين يعود
فنغنى كما كنا نكون، وأنتم ** صديق، وإذ ما تبذلين زهيد
وما أنس من الأشياء لا أنس قولها ** وقد قربت نضوى: أمصر تريد ؟
ولا قولها: لولا العيون التي ترى ** أتيتك فاعذرني فدتك جدود
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل ** إلى اليوم ينمى حبها ويزيد
فلو تكشف الأحشاء صودف تحتها ** لبثينة حب طارف وتليد
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ** بوادي القرى إني إذن لسعيد
وهل ألقين سعدي من الدهر مرة ** ومارث من حبل الصفاء جديد
وقد تلتقى الأهواء من بعد يأسة ** وقد تطلب الحاجات وهي بعيد
ولكن القدر أبى أن تلتقي الأهواء بعد يأس، أو أن تدرك الحاجات البعيدة، فلم تطل أيام جميل بمصر، فقد أخذ النور يخبو، ثم انطفأ السراج، وودع جميل الحياة بعيداً عن بثينة التي أفنى شبابه في طلبها، بعيداً عن أرض عذرة التي شهدت أيامهما السعيدة وأيامهما الشقية، بعيدا عن وادي القرى الذي كان يتمنى أن يعود إليه ليبيت فيه ليلة تكتمل له فيها سعادته.
يقول جميل مصورا أحزانه الطاحنة التي تحطم نفسه تحطيما حتى ليوشك أن ينهار تحت وطأتها:
وما ذكرتك النفس يا بثين مرة ** من الدهر إلا كادت النفس تتلف
وإلا علتني عبرة واستكانة وفاض ** لها جار من الدمع يذرف
تعلقتها، والنفس مني صحيحة فما ** زال ينمى حب جمل وتضعف
إلى اليوم حتى سل جسمي وشفني وأنكرت ** من نفسي الذي كانت أعرف
وفي ظل هذا الصراع الحاد بين اليأس والأمل، وفي ظل هذه المحاولات السلبية للسلو والنسيان عاش العذريون مخلصين لمحبوباتهم.
لقد وهب كل منهم حياته لواحدة أخلص لها حبه ولم يشرك به حبا آخر، لا يعدوها إلى غيرها، ولا يصرف هواه إلى سواها، ولا ينقل فؤاده حيث شاء من الهوى، وإنما يعيش حياته على ما فيها من حرمان وأحزان ، فقد ارتبطت حياته بها، وأصبح كل شئ فيها ملكاً لها، واستحالت أيامه ولياليه ذكرياتا وأحلاما استقرت في شعروه وفي لا شعوره فهو يعيش بها ولها وعليها، ولم يعد في قلبه متسع لمحبوبة أخرى بعد أن ثبت حبها فيه كما ثبتت فى الراحتين الأصابع.
وبلغ نعيه بثينة بعد حين، فسقطت مغشيا عليها، حتى إذا ما أفاقت أنشدت هذين البيتين اللذين تعاهد فيهما نفسها على الوفاء لعهده والإخلاص لذكراه، واللذين أودعت فيهما كل ما تفيض به نفسها مرارة ويأسا بعده :
وإن سلوى عن جميل لساعة ** من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر ** إذا مت بأساء الحياة ولينها
وتمر الأيام عليها بعد ذلك حزينة باكية، وتتوالى الليالي طويلة ثقيلة موحشة، تستعيد فيها ذكريات حبها البعيدة، وتسترجع ما مر بها في ماضيها السعيد الذي طوته رمال عذرة إلى الأبد.
ويأخذ النور يخبو، ثم ينطفئ السراج، وتودع بثينة الحياة بعيدة عن جميل الذي وهبته حبها وإخلاصها، بعيدة عن أرض عذرة ووادي القرى ووادي بغيض حيث خط طفل الحب أول سطر في كتاب حبهما الخالد.
كانت النهاية المحتومة التي لا مفر منها، إنه الموت.
ودع العاشق حياته على أمل في أن يجمع الله بينه وبين صاحبته بعد الموت، عسى أن يتحقق له فى العالم الخالد ما لم يتحقق له في العالم الفاني.
أمنية تمناها كل عاشق عذري، وأغمض عينيه عليها.
أمنية تمناها جميل كما تمناها عروة بن حزام قبل حيث يقول :
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ** وعفراء يوم الحشر ملتقيان
فيا ليت محيانا جميعا، وليتنا ** إذا نحن متنا ضمنا كفنان
أما جميل فيقول جميل:
أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى ** ببثينة في أدنى حياتي ولا حشري
وجاور إذا ما مت بيني وبينها ** فيا حبذا موتي إذا جاورت قبري
ويقول أيضا:
ألا ليتنا نحيا جميعا، وإن نمت ** يواف ضريحي في الممات ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ** إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
وبهذه الأبيات نسدل الستار على مأساة أخرى من مآسي الحب العذري الحزينة.
ولكن ما نوع تلك اللقاءات المتكررة بين جميل وبثينة ؟ هل كانت لقاءات بريئة كما يؤكد بعض الرواة ؟! ولكن كيف نصدق تلك الروايات وجميل نفسه يؤكد لنا في أشعاره أنه كان يقضي الليل كله بصحبة بثينة .
مضطجعا بجوارها، أحيانا لمدة ثلاث ليال !! فإذا ما أسفر الصبح أو كاد، تشفق بثينة عليه، وتلح عليه أن ينصرف فيأبى معتزاً بسيفه وسهامه ولكنها تلح حتى ينصرف.
بعض الروايات تؤكد أن جميلاً كان مستهتراً ماجنا، وبعضها الآخر يؤكد أنه كان عاشقا ولها.
ويذكر الرواة في أحاديثهم عن هؤلاء العذريين أخباراً كثيرة عن هذه العفة وهذا الطهر، ويصفون لقاء جميل وبثينة في أحضان الليل بعيداً عن أعين الرقباء، وكيف كانا يقضيان الوقت يسألها عن حالها وتسأله عن حاله، وتستنشده ما قال فيها من شعر فينشدها، ولا يزالان يتحدثان، لا يقولان فحشاً ولا هجراً، حتى إذا قارب الصبح ودع كل منهما صاحبه أحسن وداع، وانصرفا وكل منهما يمشي خطوة ويلتفت إلى صاحبه حتى يغيبا.
وفى اللحظات الأخيرة من حياة جميل، وهو فوق ذلك المعبر الضيق الذي يفصل بين شط الحياة وشط الموت، أقسم أنه ما وضع يده على بثينة لريبة، وأن أكثر ما كان منه أن يسند يدها إلى فؤاده